بنفس شعري عال يفيض من نثر مصفى، خاطب "محمود درويش" نفسه في افتتاحية كتابه الجديد (في حضرة الغياب) قائلا: )ولتأذن لي بأن ألمّك، واسقك، كما يلم السابلة ما نسي قاطفو الزيتون من حبات خبأها الحصى.. ولنذهبنّ معا أنا وأنت في مسارين: أنت إلى حياة ثانية، وعدتك بها اللغة، في قارئ قد ينجو من سقوط يترك على الأرض، وأنا إلى موعد أرجأته أكثر من مرة، مع موت وعدته بكأس بنبيذ أحمر في إحدى القصائد(.
تيار الصور والألوان
"في حضرة الغياب" ليس كتاباً.. إنّه تيار جارف من الصور والألوان والاستعارات والكلمات، قصيدة هائلة متنكّرة في ملابس النثر، يفضحها نبضها ولغتها المجبولة بالمجاز، الذين انتظروا محمود درويش طويلاً عند محطة قصيدة النثر، قد يسرّهم النبأ.. لكنّهم وصلوا متأخرين لاستقباله، فالشاعر يكتب هنا في رثاء نفسه.
وحده في حضرة جسده المسجّى، يستعيد الأحاسيس والأزمنة والمدن، الحكايات والأوجاع والجراح، الأفكار والمبادئ والذكريات، الأسطورة والتاريخ، ودائماً مأساة شعبه المتأرجحة بين البطولة والعبث، يفترق عن نفسه عند هذا البرزخ بين الليل والفجر.. (ولنذهبنّ معاً أنا وأنت في مسارين: أنت إلى حياة ثانية، وعدتك بها اللغة، وأنا إلى موعد أرجأته أكثر من مرّة، مع موت وعدته بكأس نبيذ أحمر في إحدى القصائد(.
النتيجة ملحمة مضبوطة على إيقاع سردي يعتمد تقنية (الفلاش باك) فيها من السينما بقدر ما فيها من الشعر، ونحن نقرأ كيف انتُزع ابن السابعة من طفولته ليلة النكسة(فلا وقت لنا لنودّع أي شيء ساخن، فاترك بقيّة منامك نائماً على نافذة مفتوحة، ليلحق بك حين يصحو عند الفجر الأزرق(.
بلا عكاز وقافية !
(محمود درويش) في كتابه الجديد، كل حكايته مرويّة بلغة المجاز وحيلة الشعر، كل شعره القديم والجديد من(سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا( إلى قصائد (كزهر اللوز أو أبعد) و( كأنه يضع بين أيدينا، ونحن على عتبة تلك المرثية الطويلة، مفتاحاً للتواصل مع ذاك العمل الملحمي الغارق في شعاب سيرة لم تكتمل(.
ففي (بلاعكاز وقافية( يمضي بنا درويش إلى طفولته البعيدة، تلك الطفولة التي بدأت قبل سنوات قليلة في انفتاح الجرح الفلسطيني الذي ما يزال ينزف دما إلى حد هذه الساعة، وهو يحدثنا عن بدايات اكتشافه للعالم حيث تعلم من (الدم الأول الذي انبثق من ضربة سكين على لحمه الطري) أن الندبة ذاكرة لا تكف عن العمل، وحيث كانت عباءة جده المعلقة تبدو (كأنها خيمة في الريح)، وحيث حلم أن عصفورا حط على يده فضمّه وشمه ولثمه ثم كلمه قائلا(يا أخي، عد إلى فضائك!)، وحيث (تدرب على فقه العزلة) وحيث لم يعرف من السماء الشجر إلا ما خفّ لقطه كالزيتون والخرنوب والسنديان والبلوط، وحيث لم يعرف من أسماء النباتات إلا الخبيزة والهندباء ذات الزهر الليلكي كلون جدته، وحيث سموه (الشقي) إنه كان (يبكي من فرح أو من حزن).
ثم يشرع الطفل (الشقي) في تعلم القراءة والكتابة فتستهويه الحروف كلها خصوصا حرف (النون..المستقل كصحف من نحاس يتسع لاحتضانه قمر كامل التكوين( ولا يلبث أن يقع في حب الشعر (فيأخذه الإيقاع المهموز بحرف النون إلى ليل أبيض)، وإذا الكلمات (تنقل فرسانا من حب الحرب دفاعا عن بئر الماء( إلى (حب الحب دفاعا عن أميرة مخطوفة في بلاد الجن) ومن (فرط ما ركب للكلمات من أجنحة لا يراها الكبار ومن فرط تحرش بالغامض سموه الحالم).
وفي سن المراهقة، يتمرد الفتى ويكتب قصائد تلهب مشاعر أبناء شعبه الذين اغتصبت أراضيهم، ودمّرت قراهم، وأحرقت مزارعهم، فتلقي به السلطات الإسرائيلية في السجن.
وعندما يتذكر تلك الأيام الحالكة العصيبة بعد أن تجاوز سن الستين يكتب (ما من أحد قضى ليلة فيه إلا درّب حنجرته على ما يشبه الغناء، فتلك هي الطريقة المتاحة لترويض العزلة وصيانة كرامة الألم.(
وفي الزنزانة المعتمة، يغني الفتى الشاعر لا )ليقيس إيقاع وقت بلا إيقاع ولا علاقة(، وإنما لأن )الزنزانة تعزيه بمناجاة الخارج( الخارج حيث الحقول، وحفيف السنابل الذهبية، والشمس التي )تملأ قلبه بضوء البرتقال(، وزهور السفوح )المبعثرة كشعر فتاة فوضوية( ورائحة القهوة )المشحونة بهياج الهال.
روائح المدن
وأمام غطرسة المحتلين الإسرائيليين وهمجيتهم، يجد الفتى الشاعر نفسه مجبرا على الهروب خارج أرضه المغتصبة، لكي لا تموت القصيدة في حنجرته قبل الأوان، وها هو في القاهرة، وفي موسكو، وفي براغ، وفي بيروت، وفي الرباط وفي تونس وفي باريس، وفي مدن أخرى كثيرة، ولكل مدينة رائحة.
فلعكا رائحة )اليود البحري والبهارات)، ولحيفا رائحة )الصنوبر والشراشف( ولبيروت رائحة )البحر والدخان والليمون) ولباريس )رائحة الخبز الطازج والأجبان ومشتقات الفتنة( ولدمشق رائحة )الياسمين والفواكه المجففة( ولتونس رائحة )مسك الليل والملح( وللرباط رائحة )الحناء والبخور والعسل(.
والمدينة التي لا تعرف من رائحتها )لا يعوّل على ذكراها( وأما المنافي التي عرفها الشاعر فلها رائحة مشتركة هي )رائحة الحنين إلى ما عداها، رائحة تتذكر رائحة أخرى.
القصيدة ناقصة..
وأمام العصر المجهول الجديد الذي ينتظره، يسائل الشاعر نفسه قائلا:
إذا كنت أنت أنا، وأنا أنت يا
صاحبي، فلنا موعد مرجأ
في الأساطير.. أي طريق ستسلك؟
قلت: الطريق طريقنا في الكلام عن الغد. قلت لك: الرحلة
ابتدأت.. قلت: كم مرة ستقول لي: الرحلة ابتدأت؟
قلت: لا غد يبقى على حاله!
قلت: لكنه لم يصل
قلت: مرّ بنا ومررنا به ذات يوم ولم ننتبه
قلت: كم مرة ستقول لي الرحلة ابتدأت؟
قلت: إن القصيدة ناقصة..
نعم القصيدة ناقصة لأن الشاعر لم يعد يكتب إلا في المنافي، والشعر لا يأتيه طبعا إلا عندما يتخلص من كارثة ليجد نفسه أمام كارثة أخرى قد تكون أشد وأعظم من سابقتها، وعندما يصل إلى خريف العمر، يكتب )خريفك هذا..فاعتن به كما يليق بشاعر يتقن الزج بنفسه في الشبه: كم أحب الخريف، وجرّ المكان برسن العبارة، قبل أن يركلك الوقت إلى هاوية عالية).
حب ..على قارعة الطريق
ولكن ما الحب بالنسبة لهذا الشاعر الذي يعيش من منفى إلى آخر؟ انه - أي الحب- (كالمعاني على قارعة الطريق( لكنه )صعب كالشعر، تعوزه الموهبة والمكايدة والصوغ الماهر، لكثرة ما فيه من مراتب( لكن هل يكفي أن يحب الشاعر؟ لا، ليس هذا كافيا إذا عليه أن )يعرف كيف يحب( فهل عرف؟ على هذا السؤال هو لا يستطيع أن يجيب إذ ليس بمقدوره (استعادة الرعشات التي هزته وبعثرته على نزوات الليل، وكهربته وعذبته بمذاق العسل الحارق).
يكتب درويش في وداع نفسه، مستعيداً ذلك الحسّ الدرامي الذي ميّز الشاعر الصعلوك في وقفته أمام الموت. يقف عند شفير الهاوية الخلابة، (الهاوية هي إغواء الأعماق وجاذبية المجهول، إذ تصبح السماء حفرة واسعة كثيفة الغيوم(.
هكذا يسترجع علاقته بالأرض والعناصر، بالحروف والأماكن، بالأرق والكتابة والفردوس المفقود وجرح الهويّة، يروي فصولاً من النكسة، فتختلط جراح الأنا بذاكرة الجماعة، يستعيد )روائح المدن) والمنافي: الخروج من بيروت، خريف المنفى الباريسي، وداع تونس، التسلل إلى غزة حيث لن يجد صديقه (معين بسيسو) في استقباله، الوصول المتأخر إلى الموعد مع )المتشائل) إميل حبيبي الباقي في حيفا، العودة إلى قصيدته القديمة ليشرب مع أمّه )قهوتها الذائعة الصيت( ويزور قبر أبيه...
المشاهد تصلنا أطيافها وأصداؤها فقط ليس من النثر في شيء، إنّه الشعر ليس مرثية للذات، بل تعويذة ضد الموت، حيلة أخيرة )في حضرة الغياب).